فصل: تفسير الآية رقم (24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا‏}‏ أي ضررناها بالمعصية، وقيل‏:‏ نقصناها حظها بالتعرض للإخراج من الجنة، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفاً من معنى الأمر‏.‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا‏}‏ ذلك بعدم العقاب عليه ‏{‏وَتَرْحَمْنَا‏}‏ بالرضا علينا، وقيل‏:‏ المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضاً عما فاتنا ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قيل‏.‏ واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى‏.‏ وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيآت وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفوراً لهما، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه‏.‏ وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة، وكان قبل نبوة آدم عليه السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة، والكلام في هذه المسئلة مشهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر مراراً ‏{‏اهبطوا‏}‏ المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وإبليس عليه اللعنة، وكرر الأمر له تبعاً لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقاً وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وقيل‏:‏ إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس‏.‏ واختار الفراء كونه خطاباً لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم، وقيل‏:‏ إنه لهما فقط لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123‏]‏ والقصة واحدة، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إن مختار الفراء هو هذا، وقيل‏:‏ إنه لهما ولابليس والحية‏.‏ واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولاً في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له‏:‏ أي شيء تريد يا آدم‏؟‏ قال‏:‏ أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له‏:‏ في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك‏؟‏ ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة، ومثله ما روي عن محمد بن قيس قال‏:‏ إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك‏؟‏ قال‏:‏ أطعمتني حواء فقال سبحانه‏:‏ يا حواء لم أطعمتيه‏؟‏ قالت أمرتني الحية فقال للحية‏:‏ لم أمرتها‏؟‏ قالت‏:‏ أمرني إبليس فقال الله تعالى‏:‏ أما أنت يا حواء فلأُدْمِينَّك كل شهر كما أدميت الشجرة‏.‏ وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك‏.‏ وأما أنت يا إبليس فملعون‏.‏

‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏اهبطوا‏}‏ وهي حال مقارنة أو مقدرة، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا‏؟‏ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل‏:‏ إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفي بذكرهما عنهم، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي‏:‏ يظلم بعضكم بعضاً بسبب تضليل الشيطان فليفهم‏.‏

‏{‏وَلَكُمْ فِى الارض مُسْتَقَرٌّ‏}‏ أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان‏.‏ وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه‏.‏ ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف والإيصال، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ومتاع‏}‏ أي بلغة ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ يريد به وقت الموت، وقيل‏:‏ القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعاً في الأرض أو يقال‏:‏ معنى ‏{‏لَكُمْ‏}‏ لجنسكم ولمجموعكم، والظرف قيل‏:‏ متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدراً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله، وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ عند البعث يوم القيامة‏.‏ وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ‏}‏ خطاب للناس كافة‏.‏ واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد‏.‏ ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام‏.‏ ‏{‏قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا‏}‏ أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباساً قاله الحسن، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبناه لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول‏:‏ رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو، وقيل‏:‏ المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه، وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ‏.‏ وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز‏.‏ ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر‏.‏ ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يوارى‏}‏ أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات‏.‏ وعن الجبائي أن الكلام على حقيقته مدعياً نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباساً، نعم أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعاً عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها‏:‏ يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبريل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه ‏"‏ وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته‏.‏ وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان‏.‏ وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعى وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يوارى‏.‏

‏{‏سَوْءتِكُمْ‏}‏ أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطرا إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك‏.‏ روى غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون‏:‏ لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية، وقيل‏:‏ إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلاً بالتعري عن الذنوب والآثام، ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذٍ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم‏.‏ وفي «الكشاف» «أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدّو السوءات وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى2‏.‏

‏{‏وَرِيشًا‏}‏ أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له‏.‏ وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفاً بشيئين مواراة السوأة والزينة‏.‏ ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره أي أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباساً ريشاً أي ذا ريش‏.‏ وتفسير الريش بالزينة مروي عن ابن زيد‏.‏ وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر، وعن ابن عباس ومجاهد والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش، وقال الطبرسي‏:‏ إنه جمع ما يحتاج إليه‏.‏ وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ‏{‏ورياشاً‏}‏ وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب‏.‏

‏{‏وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى‏}‏ أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي، فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة، ورفعه بالابتداء وخبره جملة ‏{‏ذلك خَيْرٌ‏}‏ والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطاً كالضمير‏.‏ وجوز أن يكون الخبر ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ و‏{‏ذلك‏}‏ صفة لباس، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما‏.‏ واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه‏.‏ ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل‏.‏ إن ‏{‏ذلك‏}‏ بدل أو بيان لا نعت‏.‏ وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل‏:‏ إنه أنقص من ذي اللام، وقيل‏:‏ إنهما في مرتبة واحدة، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير‏.‏ وقرىء ‏{‏وَلِبَاسُ التقوى‏}‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏لِبَاساً‏}‏ قال بعض المحققين‏:‏ وحينئذٍ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر ‏{‏لِبَاسَ التقوى‏}‏ بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة، وذكر على القراءة المشهورة أن ‏{‏ذلك‏}‏ إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل لجين الماء وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للتعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير ‏{‏مِنْ آيات الله‏}‏ الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى آدَمَ‏}‏ تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به ‏{‏لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان‏}‏ أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرىء ‏{‏يَفْتِنَنَّكُمُ‏}‏ بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة، وقرىء ‏{‏يَفْتِنَكُمُ‏}‏ بغير توكيد، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة ‏{‏كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة‏}‏ أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه، وكذا نسبة النزع إليه في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا‏}‏ والجملة حال من ‏{‏أَبَوَيْكُم‏}‏ أو من فاعل ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ ولفظ المضارع على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقياً‏.‏

وقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ‏}‏ تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بإن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف، والضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للشيطان‏.‏ وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في ‏{‏يَرَاكُمْ‏}‏ وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا يصلح للتأكيد‏.‏ وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية و‏{‏حَيْثُ‏}‏ ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة ‏{‏لاَ تَرَوْنَهُمْ‏}‏ في محل جر بالإضافة، وعن أبي إسحاق أن ‏{‏حَيْثُ‏}‏ موصولة وما بعد صلة لها‏.‏ ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي‏.‏ والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة‏.‏ والمراد بهم هنا جنوده من الجن‏.‏ وقرأ اليزبدي ‏{‏وَقَبِيلُهُ‏}‏ بالنصب وهو عطف على اسم إن‏.‏ ويتعين كون الضمير للشيطان ولا يصح كونه للشأن خلافاً لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع‏.‏

والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس ولا يتمثلون‏.‏ ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لمقدمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه‏.‏ ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين‏.‏ وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول كما قال البعض على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم‏.‏

وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنياً تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعاً الاستلزام المذكور‏.‏ وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف‏.‏ وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشىء من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة‏.‏ وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلى الله عليه وسلم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبريل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته‏.‏ ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقاً للعادة‏.‏ وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الإنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضاً لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم‏.‏ بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحاً ما يدل على وقوع هذه الرؤية‏.‏ وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها‏.‏ وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة، وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة‏.‏ على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة‏.‏ ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر‏.‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة‏}‏ جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب وجوز عطفها على الصلة‏.‏ والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الإسمية والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك‏.‏ وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة‏.‏ «وفي الآية على ما قاله الطبرسي حذف، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها2‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ جواب للناهين ‏{‏وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا‏}‏ محتجين بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه‏.‏ وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير ‏{‏أَمْرُنَا‏}‏ كما قيل لهم ولآبائهم، وحينئذٍ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء‏}‏ فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على ‏(‏مكارم‏)‏ الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف، وقال الإمام‏:‏ «لم يذكر سبحانه جواباً عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقاً لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهراً لم يذكر الله تعالى الجواب عنه»، وذكر بعض المحققين أن الإعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ الخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلاً والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه، وقيل‏:‏ إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لما فعلتم‏؟‏ قالوا‏:‏ وجدنا آباءنا فقيل‏:‏ ومن أين أخذا آباؤكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ الله أمرنا بها، والكلام حينئذٍ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا؛ وقيل‏:‏ لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذٍ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم‏.‏ وعلى الوجهين يمتنعالتقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقاً‏.‏

‏{‏أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ من تمام القول المأمور به، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناءً على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر، وقيل‏:‏ المراد بالعلم ما يشمل الظن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط‏}‏ بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها؛ والقسط على ما قال غير واحد العدل، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط‏.‏ وقال الراغب‏:‏ «هو النصيب بالعدل كالنَّصَفِ والنَّصَفة‏.‏ ويقال‏:‏ القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والإقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال‏:‏ قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل»‏.‏ وهذا أولى مما قاله الطبرسي من «أن أصله ‏(‏الميل‏)‏ فإن كان إلى جهة الحق فعدل ومنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ وإن كان إلى جهة الباطل فجور ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 15‏]‏ والمراد به هنا على ما نقل عن أبي مسلم جميع الطاعات والقرب‏.‏ وروي عن ابن عباس والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله ومجاهد والسدي وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها ‏{‏عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله، والسجود مجاز عن الصلاة‏.‏ وقال غير واحد‏:‏ المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة‏.‏ والأمر على القولين للوجوب‏.‏ واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا للندب والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد‏.‏ ومثله ما قيل‏:‏ إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندباً عند بعض ووجوباً عند آخرين‏.‏ والواو للعطف وما بعده قيل‏:‏ معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا‏.‏ والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، وقال الجرجاني‏:‏ إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى، وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية‏.‏ وجوز أن يكون هناك قل مقداراً معطوفاً على نظيره‏.‏ و‏{‏أَقِيمُواْ‏}‏ مقول له‏.‏ وأن يكون معطوفاً على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا‏.‏

‏{‏وادعوه‏}‏ أي اعبدوه ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له والدين بالمعنى اللغوي‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ‏}‏ أي أنشأكم ابتداءً ‏{‏تَعُودُونَ‏}‏ إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إنه متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ ولا يخفى بعده‏.‏ ولم يقل سبحانه‏:‏ يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء‏.‏ وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرة عليها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئاً كذلك تبعثون يوم القيامة‏.‏ وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة‏.‏ ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال‏:‏ «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال‏:‏ أتدرون ما هذان الكتابان‏؟‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ثم قال للذي في شماله‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً فقال أصحابه‏:‏ ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال‏:‏ فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير»‏.‏ وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى‏:‏ كما كتب عليكم تكونون‏.‏ وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

وعليه يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة‏}‏ بياناً وتفصيلاً لذلك، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ بعد قوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ قيل‏:‏ وهو الأنسب بالسياق‏.‏ وذكر الطيبي أن ههنا نكتة سرية وهي أن يقال‏:‏ إنه تعالى قدم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي ألبتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول ‏{‏هُدًى‏}‏ للدلالة على الاختصاص وأن فريقاً آخر ما أراد هدايتهم وقرر ذلك بأن عطف عليه ‏{‏وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة‏}‏ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقاً حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب «المفتاح» لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول‏:‏ إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى‏.‏

وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله‏}‏ «أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى» فجملة ‏{‏إِنَّهُمُ اتخذوا‏}‏ على هذا تعليل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة‏}‏ ويؤيد ذلك أنه قرىء ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالفتح‏.‏ ويحتمل أن تكون تأكيداً لضلالهم وتحقيقاً له وأنا والحق أحق بالاتباع مع القائل‏:‏ إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون‏:‏ إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع‏.‏ ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل‏.‏ والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفَرِيقًا حَقَّ‏}‏ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال‏.‏ واختير تقديره مؤخراً لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَعُودُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏ بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ الأول و‏{‏فَرِيقاً‏}‏ الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي ‏{‏تَعُودُونَ تَعُودُونَ فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا‏}‏ الخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدراً‏.‏ ولم تلحق تاء التأنيث لحق للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد‏.‏ ولعل الكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلاناً والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطىء والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار‏.‏ ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلاً ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعاً في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وإنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل مما لا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت‏.‏ وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطىء والظاهر ما قلنا، وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ‏}‏ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة ‏{‏عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيوراً مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول‏:‏

اليوم يبدو بعضه أو كله *** وما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له‏:‏ يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تلبس أجود ثيابك‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ‏}‏ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي، ولا يخفى أن الأمر حينئذٍ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب، وقيل‏:‏ إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل تمشطوا عند كل صلاة، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر‏.‏ ومثل ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زينة الصلاة قالوا‏:‏ وما زينة الصلاة‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ البسوا نعالكم فصلوا فيها ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن عساكر وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ‏}‏ الخ ‏"‏ صلوا في نعالكم ‏"‏

‏{‏وَكُلُواْ واشربوا‏}‏ مما طاب لكم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون‏:‏ يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية، ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه2‏.‏

وقيل‏:‏ المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين، فقد أخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت ‏"‏ وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف ‏"‏‏.‏ وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلاً من غير داع إليه سوى الشهوة، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضاً، وروي ذلك عن عكرمة، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة‏.‏ ورواه البخاري عنه تعليقاً وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل‏:‏

نصحته نصيحة *** قالت بها الأكياس

كل ما اشتهيت والبسن *** ما تشتهيه الناس

فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه‏.‏ وفي «العجائب» للكرماني قال طبيب نصراني لعلي بن الحسين بن واقد‏:‏ ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له‏:‏ قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ فقال النصراني‏:‏ ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال‏:‏ قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته ‏"‏ فقال‏:‏ ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً انتهى‏.‏ وما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو من كلام الحرث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي «الإحياء» مرفوعاً ‏"‏ البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسد ما اعتاد ‏"‏

وتعقبه العراقي قائلاً‏:‏ لم أجد له أصلاً‏.‏ وفي «شعب الإيمان» للبيهقي و«لقط المنافع» لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً‏:‏ ‏"‏ المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة ‏(‏صارت‏)‏ العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت ‏(‏4‏)‏ العروق بالسقم ‏"‏ وتعقبه الدارقطني قائلاً‏:‏ لا نعرف هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن ‏(‏أبحر‏)‏‏.‏ وفي «الدر المنثور» أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها‏:‏ ‏"‏ يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد ‏"‏ ولم أر من تعقبه، نعم رأيت في «النهاية» لابن الأثير «سأل عمرو الحرث بن كلدة ما الدواء‏؟‏ قال‏:‏ الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض»، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة‏.‏

‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم‏.‏ والجملة في موضع التعليل للنهي، وقد جمعت هذه الآية كما قيل أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله‏}‏ من الثياب وكل ما يتجمل به ‏{‏التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏ أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن والكتان والحيوان كالحرير والصوف والمعادن كالخواتم والدروع ‏{‏والطيبات مِنَ الرزق‏}‏ أي المستلذات، وقيل‏:‏ المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها‏.‏ واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في ‏{‏مِنْ‏}‏ لانكار تحريمها على أبلغ وجه‏.‏ ونقل عن ابن الفرس أنه قال‏:‏ استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال‏.‏ وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين ديناراً فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأساً ويقول ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏‏.‏

وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا‏:‏ يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال‏:‏ لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليهم ذلك، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم‏.‏

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم، وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول‏:‏ إن لي نساء وجواري فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري‏.‏ وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن لله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه» وقيل لبعضهم‏:‏ أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصاً عليه كذا رقعة فقال‏:‏ فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين‏.‏ نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضاً أشياء أخر تطلب من محالها‏.‏

‏{‏قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ قَالُواْ لَن‏}‏ أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى، والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام ‏{‏خَالِصَةً يَوْمَ القيامة‏}‏ لا يشاركهم فيها غيرهم‏.‏ وعن الجبائي أن المعنى هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب ‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقة‏.‏ وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر و‏{‏لِلَّذِينَ‏}‏ متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص ‏{‏كذلك نُفَصّلُ الآيات‏}‏ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة‏.‏ وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ونظائره مما تقدم تحقيقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش‏}‏ أي ما تزايد قبحه من المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ ما يتعلق بالفروج ‏{‏مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ بدل من ‏{‏الفواحش‏}‏ أي جهرها وسرها‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سراً وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقاً‏.‏ وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا‏.‏ وقيل‏:‏ الأول‏:‏ طواف الرجال بالنساء‏.‏ والثاني‏:‏ طواف النساء بالليل عاريات‏.‏

‏{‏والإثم‏}‏ أي ما يوجب الإثم، وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب، وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش‏.‏ وقيل‏:‏ إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس والحسن البصري وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر‏:‏ نهانا رسول الله أن نقرب الزنا *** وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وقول الآخر‏:‏ شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم يذهب بالعقول

وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر اثماً في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع‏.‏ والمشهور أن ذلك من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم‏.‏ وقال أبو حيان وغيره‏:‏ ‏(‏إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد‏)‏‏.‏ وأيضاً يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر‏.‏ ‏{‏والبغى‏}‏ الظلم والاستطالة على الناس‏.‏ وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك‏.‏ وجوز أن يكون حالاً مؤكدة‏.‏ وقيل‏:‏ جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغياً في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى ‏{‏وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ أي حجة وبرهاناً، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معاً على أبلغ وجه كقوله‏:‏ لا ترى الضب بها ينجحر *** وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ بالإلحاد في صفاته واإفتراء عليه كقولهم‏:‏ ‏{‏والله أَمَرَنَا بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ من الأمم المهلكة ‏{‏أَجَلٌ‏}‏ أي وقت معين مضروب لاستئصالهم كما قال الحسن‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل‏.‏ وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض‏.‏ وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضاً‏.‏ وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا‏:‏ التقدير ولكل أحد من أمة، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ الضمير كما قال بعض المحققين إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافاً إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيؤه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعية كأنه قيل‏:‏ إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها‏.‏ وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الاضمار لزيادة التقرير والإضافة لإفادة أكمل التمييز‏.‏ وقرأ ابن سيرين ‏{‏آجالهم‏}‏ بصيغة الجمع واستظهرها ابن جني وجعل الإفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة‏.‏ والفاء قيل‏:‏ فصيحة وسقطت في آية يونس ‏(‏94‏)‏ لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك‏.‏ والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم‏.‏

‏{‏أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ عنه ‏{‏سَاعَةِ‏}‏ قطعة من الزمان في غاية القلة‏.‏ وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبداً، ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا، ويستعمل الأولى أهل الحساب غالباً والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم‏.‏ وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبداً سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلاً من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبداً‏.‏ ولهذا تطول وتقصر، وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار والمراد لا يتأخرون أصلا‏.‏ وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له‏.‏

‏{‏وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي ولا يتقدمون عليه‏.‏ والظاهر أنه عطف على ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ كما أعربه الحوفي وغيره‏.‏ واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الإخبار بالضروري كقولك‏:‏ إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فيما مضى، وقيل‏:‏ إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط‏.‏ فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه‏.‏

وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم‏.‏

وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكناً عقلاً فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏ الآية‏.‏ ولعل هذا مراد من قال‏:‏ إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ وقولهم‏:‏ كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل، وأنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر ‏{‏وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ والحق العطف على الجملة الشرطية، وفي «شرح المفتاح» القيد إذا جعل جزأ من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية، وعليه لا محذور في العطف على ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ لعدم المشاركة في القيد؛ وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران‏.‏ الأول‏:‏ أن يكون القيد سابقاً في الاعتبار والعطف لاحقاً فيه‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون العطف سابقاً والقيد لاحقاً، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك‏.‏ وبعضهم بنى العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار كما قيل لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب، وأما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5 والمؤمنون‏:‏ 43‏]‏ من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ فالأهم هناك بيان انتفاء السبق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ ءادَمَ‏}‏ خطاب لكافة الناس‏.‏ ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه‏.‏ وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال‏:‏ ‏(‏إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال‏:‏ ‏{‏يَسْتَقْدِمُونَ يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏فاتقون‏}‏ ثم بثهم‏)‏‏.‏ والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ببني آدم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر‏.‏ ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ‏}‏ أي من جنسكم‏.‏ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل‏.‏ و‏{‏أَمَّا‏}‏ هي إن الشرطية ضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط، وقيل‏:‏ إنها تفيد العموم أيضاً فمعنى إما تفعلن مثلاً إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه‏.‏ ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة ومن ذلك قوله‏:‏

فإما تريني ولي لمة *** فإن الحوادث أودي بها

ورد بأن كثرة سماع الحدف تبعد القول بالضرورة‏.‏ ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه، وقيل‏:‏ إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم‏.‏ وفي الإتيان بإن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتي‏}‏ صفة أخرى لرسل‏.‏ وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ جواب الشرط و‏(‏ من‏)‏ إما شرطية أو موصولة و‏(‏ منكم‏)‏ مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط‏.‏ والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف الخ‏.‏ وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَذَّبُواْ‏}‏ منكم ‏{‏بئاياتنا‏}‏ التي تقص ‏{‏واستكبروا عَنْهَا‏}‏ ولم يقبلوها ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لتكذيبهم واستكبارهم‏.‏ وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة‏.‏ وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه‏.‏ وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ‏}‏ أو كذب ما قاله جل شأنه‏.‏ والاستفهام للانكار وقد مر تحقيق ذلك ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول‏.‏ والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ‏.‏ وما فيه من معنى البعد للايذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب ‏{‏يَنَالُهُمُ‏}‏ أي يصيبهم ‏{‏نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب‏}‏ أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب‏.‏ وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين‏.‏ وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر‏.‏ ومثله عن مجاهد‏.‏ وعن أبي صالح ما قدر من العذاب‏.‏ وعن الحسن مثله‏.‏ وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ لابتداء الغاية، وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من ‏{‏نَصِيبَهُمْ‏}‏ أي كائناً من الكتاب‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا‏}‏ أي ملك الموت وأعوانه ‏{‏يَتَوَفَّوْنَهُمْ‏}‏ أي حال كونهم متوفين لأرواحهم وحتى غاية نيلهم وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله‏:‏

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان *** وقيل‏:‏ إنها جارة‏.‏ وقيل‏:‏ لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء‏.‏ وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر‏.‏ وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الرسل لهم ‏{‏أَيْنَ مَا الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات ‏{‏قَالُواْ ضَلُّواْ‏}‏ أي غابوا ‏{‏عَنَّا‏}‏ لا ندري أين مكانهم فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجىء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلة لا تصلت‏.‏

‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي اعترفوا على أنفسهم‏.‏ وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏كافرين‏}‏ عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا حيث اتضح لهم حاله، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر‏.‏ ويحتمل أن تكون عطفاً على ‏{‏قَالُواْ‏}‏ وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه‏.‏ والاستفهام على ما ذهب إليه غير واحد غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب‏.‏ وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في هذه الآية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك ‏{‏ادخلوا فِى أُمَمٍ‏}‏ أي مع أمم، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لامم ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ أي مضت ‏{‏مِن قَبْلِكُم مّن الجن والإنس‏}‏ يعني كفار الأمم من النوعين، وقدم الجن لمزيد شرهم ‏{‏فِى النار‏}‏ متعلق بأدخلوا، وجوز أن يتعلق ‏{‏فِى أُمَمٍ‏}‏ به ويحمل ‏{‏فِى النار‏}‏ على البدلية أو على أنه صفة ‏{‏أُمَمٌ‏}‏؛ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخباراً عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقاً أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ‏}‏ من الأمم تابعة أو متبوعة في النار ‏{‏لَّعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابة التي زادت في ضلالها، وعن أبي مسلم يلعن الأتباع القادة يقولون أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا‏}‏ غاية لما قبله أي يدخلون فوجاً فوجاً لاعنا بعضهم بعضاً إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار‏.‏ وأصل ‏{‏اداركوا‏}‏ تداركوا فادغمت التاء في الدال بعد قلبها دالاً وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل‏.‏ وعن أبي عمرو أنه قرأ‏:‏ ‏{‏اداركوا‏}‏ بقطع ألف الوصل وهو كما قيل مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل، وقرأ ‏{‏إِذَا‏}‏ بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغماً ولا فرق بين المتصل والمنفصل ‏{‏جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ‏}‏ منزلة وهم الأتباع والسفلة ‏{‏لاولاهم‏}‏ منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولاً لأولاهم كذلك، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل، واللام في ‏{‏لاولاهم‏}‏ للتعليل لا للتبليغ كما في قولك‏:‏ قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا‏}‏ أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم ‏{‏قَالَ ادخلوا فِى‏}‏ أي مضاعفا كما روي عن مجاهد ‏{‏مِنَ النار‏}‏‏.‏

والضعف على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا مثل الشيء مرة واحدة، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد‏.‏ وقال الراغب‏:‏ ‏(‏الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالشَّيء والشِّيء وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد ‏(‏و‏)‏ مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف؛ وعلى ذلك قول الشاعر

‏:‏ جزيتك ضعف الود لما اشتكيته *** وما إن جزاك الضعف من أحد قبلى

وإذا قيل‏:‏ أعطه ضِعْفَيْ واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، ‏(‏وذلك ثلاثة‏)‏ ‏(‏2‏)‏ هذا إذا كان الضعف مضافاً فإذا لم يكن مضافاً فقلتَ‏:‏ الضعفين فقد قيل‏:‏ يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد ‏(‏منهما‏)‏‏)‏ يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه‏.‏ ونصب ‏{‏ضعافا‏}‏ على أنه صفة لعذاب، وجوز أن يكون بدلاً منه و‏{‏مِنَ النار‏}‏ صفة العذاب أو الضعف‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلّ‏}‏ منكم ومنهم عذاب ‏{‏ضِعْفَ‏}‏ من النار، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق، وأما الأتباع فلذلك أيضاً عند بعض، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلان اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الأتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال‏:‏ إنه مخصوص ببعضهم؛ وقيل‏:‏ الأحسن أن يقال‏:‏ إن ضعف الأتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعاً للهوى، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 32‏]‏ وفيه ما فيه‏.‏ والأولى أن يقال‏:‏ إن ذلك في الأتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى «لكل منكم ومنهم ضعف ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهراً وباطناً وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن»، واختار أن المعنى «لكل منهم ضعف ما لكم من العذاب» والظاهر ما عولنا عليه‏.‏

‏{‏ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للأتباع كما هو الظاهر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه على الأول للأتباع، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الأتباع على الغيب الذين هم القادة‏.‏ وقرأ عاصم ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلاً لم يقصد به إدراجه في الجواب، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال‏:‏ إن هذه القراءة على انفصال القادة من الأتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَتْ أولاهم لاِخْرَاهُمْ‏}‏ حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ‏}‏ أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن ءخباره سبحانه بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏لِكُلّ ضِعْفٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا‏.‏ وقيل‏:‏ إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم فما كان الخ وليس بشيء‏.‏ وأياً ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه، وعليه فليس مرتباً على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ المضاعف ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه‏.‏ والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي‏.‏ وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور‏.‏ وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على ‏{‏فَضَّلَ‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا الخ وهو خلاف الظاهر جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك ‏{‏واستكبروا عَنْهَا‏}‏ أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به ‏{‏لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ‏}‏ أي لأرواحهم إذا ماتوا ‏{‏أبواب السماء‏}‏ كما تفتح لأرواح المؤمنين‏.‏ أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قال‏:‏ أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان فيقال‏:‏ مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أدخلي حميدة وأبشري روح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قال‏:‏ أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال‏:‏ من هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان فيقال‏:‏ لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة‏.‏ وقيل‏:‏ لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء‏.‏ وروي ذلك عن الحسن ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم‏.‏ وروي ذلك عن ابن جريج‏.‏ وقيل‏:‏ المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة‏.‏

وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله‏.‏ وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا‏.‏ وظاهر كلام أهل الهيئة الجديدة جواز الخرق والالتئام على الأفلاك‏.‏ وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى‏.‏ والتاء في ‏{‏تُفَتَّحُ‏}‏ لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء التحتية وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل‏.‏ وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازاً لأنها سبب لذلك‏.‏

وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى‏.‏

‏{‏وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ يوم القيامة ‏{‏حتى يَلِجَ‏}‏ أي يدخل ‏{‏الجمل‏}‏ «هو البعير إذا بزل وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات»‏.‏ وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال‏:‏ هو زوج الناقة‏.‏ وعن الحسن أنه قال‏:‏ ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف‏.‏ والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل‏:‏ حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم ‏{‏فِى سَمّ الخياط‏}‏ أي ثقبة الابرة وهو مثل عندهم أيضاً في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه‏.‏ وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة‏.‏ والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق‏.‏ وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون‏:‏ لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبداً، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة‏.‏ والشعبي ‏{‏الجمل‏}‏ بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل‏.‏

وقرأ عبد الكريم وحنظلة وابن عباس وابن جبير في رواية أخرى ‏{‏الجمل‏}‏ بالضم والفتح مع التخفيف كنغر‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ ‏{‏الجمل‏}‏ بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و‏{‏الجمل‏}‏ بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال ‏{‏الجمل‏}‏ بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب‏.‏ وقيل‏:‏ هو حبل السفينة، وقرىء ‏{‏فِى سَمّ‏}‏ بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله ‏{‏فِى سَمّ‏}‏ بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع‏.‏

‏{‏تَتْبِيبٍ وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع ‏{‏نَجْزِى المجرمين‏}‏ أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولاً أولياً، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة‏.‏ ويقال‏:‏ أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ‏}‏ أي فراش من تحتهم، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و‏(‏ من‏)‏ تجريدية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏مِهَادٌ‏}‏ لتقدمه ‏{‏وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ أي أغطية جمع غاشية، وعن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف‏.‏ والآية على ما قيل مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏ والمراد أن النار محيطة بهم من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال‏:‏ «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح» وتنوين ‏{‏غَوَاشٍ‏}‏ عوض عن الحرف المحذوف أو حركته، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسياً منسياً، ولذا قرىء ‏{‏غَوَاشٍ‏}‏ بالرفع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الجوار‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 24‏]‏ في قراءة عبد الله‏.‏

‏{‏تَتْبِيبٍ وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الجزء الشديد ‏{‏نَجْزِى الظالمين‏}‏ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين‏.‏ وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الأجرام، ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ أي بآياتنا ولم يكذبوا بها ‏{‏وَعَمِلُواْ‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ ولم يستكبروا عنها ‏{‏لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعاً، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة‏}‏ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا نكلف نفساً إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السموات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضاً‏.‏ وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلاً من الموصول وما بعده خبر المبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف‏.‏ وجوز أيضاً أن تكون جملة ‏{‏لاَ نُكَلّفُ‏}‏ الخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ حال من ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏، وجوز كونه حالاً من ‏{‏الجنة‏}‏ لاشتماله على ضميرها أيضاً والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة‏.‏ وقيل‏:‏ خبر لأولئك على رأي من جوزه‏.‏ و‏{‏فِيهَا‏}‏ متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ‏}‏ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا‏.‏ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي قال‏:‏ «إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة ‏(‏فبلغوها‏)‏ وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان ‏(‏فيشربون‏)‏ من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ‏(‏ويغتسلون‏)‏ من الأخرى ‏(‏فتجري‏)‏ عليهم نضرة النعيم ‏(‏فلن‏)‏ يشعثوا ‏(‏ولن‏)‏ ‏(‏5‏)‏ ‏(‏يشحبوا‏)‏ بعدها أبداً»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يحبس أهل الجنة بعدما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل ‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة‏.‏ وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضاً‏.‏ وأياً ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحياناً بالنزع مجازاً، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضاً كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية‏.‏ ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبىء بظاهره عن الغل‏.‏ إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاءاً لكلمة الله تعالى‏.‏ ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعده ظاهر الصيغة‏.‏ و‏{‏مّنْ غِلّ‏}‏ على سائر الاحتمالات حال من ‏(‏ما‏)‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار‏}‏ حال أيضاً إما من الضمير في ‏{‏صُدُورُهُمْ‏}‏ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف، وإما من ضمير ‏{‏نزعنا‏}‏ على ما قيل والعامل الفعل‏.‏ واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم‏.‏ والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم‏.‏

‏{‏الانهار وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا‏}‏ الفوز العظيم والنعيم المقيم‏.‏ والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازاً وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه‏.‏ ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئاً ‏{‏وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ‏}‏ أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها ‏{‏لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله‏}‏ وفقنا له، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب ‏(‏لولا‏)‏ محذوف لدلالة ما قبله عليه، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول ‏{‏نهتدي‏}‏‏.‏ ‏{‏وهدانا‏}‏ الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه، والجملة حالية أو استئنافية، وفي مصاحف أهل الشام ‏{‏نَعْقِلُ مَا كُنَّا‏}‏ بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك؛ وهذا كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق‏}‏ جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضاً وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء، وقيل‏:‏ تعليل لهدايتهم‏.‏ والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالاً من الرسل، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك، ودونك فاعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق ‏{‏وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله‏}‏ واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه‏.‏ ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية‏.‏

‏{‏وَنُودُواْ‏}‏ أي نادتهم الملائكة، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله، والآثار تؤيد الأول‏.‏ ‏{‏أَن تِلْكُمُ الجنة‏}‏ أي أي تلكم على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة لما في النداء من معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم، وأوجب البعض الثاني بناءً على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثاً، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج‏.‏

والظاهر أن ‏{‏تِلْكُمُ الجنة‏}‏ مبتدأ وخبر وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُورِثْتُمُوهَا‏}‏ حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الجنة نعتاً لتلكم أو بدلاً و‏{‏أُورِثْتُمُوهَا‏}‏ الخبر، ولا يجوز أن يكون حالاً من المبتدأ ولا من كم كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر، والتزم بعضهم في توجيه البعد أن ‏{‏تِلْكُمُ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه‏.‏ والمنادى له أولاً وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها‏.‏

‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من الأعمال الصالحة، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجباً وإن كان سبباً بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلاً سبباً له، والباء في قوله صلى الله عليه وسلم على ما في بعض الكتب‏:‏ ‏"‏ لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ‏"‏ وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وجابر ‏"‏ لن ينجو أحد منكم بعمله ‏"‏ للسبب التام فلا تعارض، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم، وقيل‏:‏ تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثاً للمؤمنين، فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال‏:‏ «ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل ‏(‏مبين‏)‏ فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل ‏(‏لهم‏)‏ هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال‏:‏ يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون ‏(‏فيقتسم‏)‏ أهل الجنة منازلهم»، وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز‏.‏

وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدى إلى صاحبه سبحانك هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح‏.‏